حين حُجب بصري بالكامل بعد انتهاء معاناتي الكبرى مع ضعف البصر للحصول على شهادة الثانوية العامة، فكرت في الهرب إلى واقع جديد وغريب يجعلني خارج حدود الزمن والوجود، فكرت ملياً بذلك والتحقت بـ ‘معهد المكفوفين بدمشق’ الذي وفّر لي الحصول على شهادة البكالوريا للمرة الثانية، لأستطيع بعدها التسجيل في الجامعة.

وبهذا انتزعت صفة أستاذ من أفواه الجميع حباً واحتراماً واعترافاً بعد انجازات لا تخفى في مجال اختصاصي الأكاديمي، وتأثير ذلك على الوسط المحيط، إلا أن الغشاوة بقيت حاجباً لعيون الكثيرين وقلوبهم عن الاعتراف بالحقيقة التي لا يمكن تكذيبها أبداً!

عملت في مؤسسة رسمية بصفة عامل من الدرجة الخامسة متنازلاً عن ترتيبي الوظيفي المستحق بسبب الحاجة لفرصة العمل، ولكن كما يقال “رضينا بالبين وما رضي البين فينا”، كنت متعاوناً مع جميع العاملين في الدائرة أنفذ كل المهمات التي تخدم أهل القرية التي يمثلها قطاع المؤسسة.

لكن المؤسف المخزي تلك المواجهات التي كانت تلاحقني كل يوم مع المسؤول عن المؤسسة الذي اختصر مهماته الوظيفية في التدقيق على دوامي، واصراره على تسليمي دفتر الدوام لمراقبة الجداول التي يملأها العاملون عند حضورهم، ليست تلك نكتة بل هي حقيقة وواقع مرير عانيت فيه الكثير من الإهانات بالقول والممارسة.

ولعل أبرز تلك المواقف يوم حضر المسؤول صباحاً وطلب مني التوقيع على دفتر الدوام، وقد كنت منذ تعيني متفقاً مع أصدقائي على وضع حرف يعبر عن حضوري، فأخبرته يومها ذلك، لكنه أصر على موقفه الذي لم يزعجني أكثر من تلك الإساءة المركبة التي وجهها لي حين سألني عن العمل الذي سأعمل به، فقلت له أنني جاهز لتنفيذ كل ما يطلبه مني مشرف العمل من نقل التوجيهات والإرشادات والورقيات التي تتعلق بمتابعة تسهيل معاملات المواطنين في قريتي؛

لكنه أصر على نيته تسليمي دفتر الدوام، عندها أخبرته بالموافقة في حال صادقت الإدارة العليا على تحملها مسؤولية ما ينجم عن استلام كفيف لمثل هذه المهمة، وعندما شعر بعدم الجدوى من إقناعي برغبته قال لي بكل استخفاف: “إذاً ماذا ستعمل؟ سأكلفك بوظيفة مستخدَم أو عامل نظافة” وهو في حالة من السوداوية الخانقة.

هنا لم أحتمل ذلك العبث الخلقي، فقلت له: “تذكر أيها المهندس أن شهادتي الجامعية لا تقل شأناً عن شهادتك، فاحترم ما وصلت إليه من الدرجة العلمية باحترامك جوهر تلك الدرجة أيا كان حاملها، أما بالنسبة لعملي كـ مستخدَم، فهو لشرف عظيم، فالجميع يقدّر وجودي هنا”.

تساءلت وقتها، كيف يمكن لمجاز جامعي أن يظن نفسه الوحيد الذي نال إجازة جامعية، متناسياً حقيقة ما يراه أمامه من قدرة كفيف مثلي على نيل نفس الشهادة رغم الكثير من التحديات التي تجاوزتها، فقط لكي أمحو من ذاكرة الجميع عبارات الشفقة والحرام والعطف والمسكنة.

كتابة: أ. ممدوح ديبو