منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، تعرضت فاطمة دعبول، وهي اليوم سيدة خمسينية تعمل في مجال الخياطة وتصميم الأزياء، لتجربة مؤلمة، حين أجهضت مرتين نتيجة “عدم وجود معرفة طبية بحالتها الصحية”، وفق تعبيرها.

أُصيبت فاطمة، كما زوجها، بشلل الأطفال، وتزوجت في سن الثالثة والعشرين بعد حكاية حب وكفاح لإقناع المحيط بقدرتهما على تأسيس عائلة، “وقتها كان بلبنان في أربع أو خمس حالات زواج معوقين بس”، تقول.

خلال الأعوام الأولى من الزواج حملت فاطمة مرتين، وكانت تتابع حالتها مع أكثر من طبيبة نسائية، لكنها كانت “أول حالة بيشوفوها عندها إعاقة”. في المرتين توفي الطفل قبيل الولادة بقليل، وتعزو السيدة السبب إلى “عدم المعرفة بحيثيات وضعها الصحي، فهي تختلف عن بقية الحوامل، ولها متطلبات خاصة من حيث القدرة على الحركة خاصةً في أشهر الحمل الأخيرة”. بعد سنوات من العناء، أنجب الزوجان ابنتين تتابعان اليوم حياتهما الجامعية.

“تغيب التوعية المرتبطة بالصحة الإنجابية لذوات الإعاقة بشكل شبه تام في لبنان، وهي مهمة حتى يعرفن كيف يتعاملن مع أمور جسدية تختلف بالنسبة إليهن عن بقية النساء”، تقول فاطمة المقيمة في ضاحية بيروت الجنوبية، وهي ناشطة في جمعيات تُعنى بحقوق ذوي الإعاقة، مشيرةً إلى أن هذا النوع من التوعية يمكن أن يُجنّب مئات النساء خوض تجارب كالتي حصلت معها.

وفق الأمم المتحدة، تعني الصحة الإنجابية أن “يكون الأشخاص قادرين على عيش حياة جنسية مرضية وآمنة، وأن يتمكنوا من الإنجاب والتمتع بحرية القرار”، فيما تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن “ذوات الإعاقة يواجهن عوائق تقف أمام حصولهن على الخدمات والمعلومات المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية، ويفترض العاملون الصحيون في كثير من الأحيان بأنهن عديمات الرغبة الجنسية أو غير صالحات لكي يصبحن أمهات”.

كذلك، تتحدث اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عن “حرمانهم من الحق في الزواج أو تكوين أسرة، مع عدم تزويد المجتمع لهم بمعلومات كافية عن الأنشطة الجنسية أو تمكينهم من التربية الجنسية”.

ويتفق من قابلتهن منصة عكازة في أثناء إعداد التقرير حول هذه النقاط؛ “حظ الفتاة ذات الإعاقة بالزواج أقل من الشاب المعوق”، و ”بيفكروا إذا أنتِ على الكرسي ما فيك تتزوجي وتجيبي ولاد”، و ”الناس بتنظر للمرأة المعاقة على أنها ضعيفة”، هي عبارات سمعناها، تكشف حجم معاناة هذه الفئة ونضالها للحصول على حياة طبيعية.

تفاصيل صغيرة

ليس من السهل اليوم في لبنان الحصول على خدمات الصحة الإنجابية، خاصةً مع الأزمة الاقتصادية الحالية، وتزداد صعوبة الأمر لذوات الإعاقة، مع عدم تخصيص أي خدمات تواكب وضعهن الجسدي، وتهتم بتفاصيل مفصلية بالنسبة إليهن.

“لم أسمع يوماً عن توعية بالصحة الإنجابية مخصصة للنساء الكفيفات أو الصماوات”، تقول ألفت حسين (34 سنة)، المقيمة في البقاع الغربي، والمصابة بضعف البصر، وتعمل في مجال التعليم والتوعية بمهارات الحياة للمكفوفين.

وتطرح مثالاً عن المكفوفات: “تحتاج هذه الفئة إلى توعية خاصة للتعامل مع أجسادهن. مثلاً كيف يعرفن بقدوم الدورة الشهرية وكيف يتصرفن خلالها وهن غير قادرات على الرؤية؟”.

بدورها تتحدث روى حميّة، وهي فتاة ثلاثينية لديها شلل نصفي، تعيش في البقاع الأوسط وتعمل مع عائلتها ضمن محل بقالة صغير، عن مشاركتها في جلسات توعية حول الصحة الإنجابية: “تعلّمنا وعلّمنا عن كيفية التعامل مع الدورة الشهرية والاهتمام بالنظافة الشخصية، مع أخذ وضعنا الخاص على الكرسي في الحسبان”، لكنها تشير إلى عدم كفاية هذه الجلسات، وعدم تقبل المجتمع والأهل لحضور بناتهم لها لأنها “عيب”.

وهنا تشير فاطمة دعبول إلى أهمية هذا النوع من التوعية الغائبة: “تحتاج المرأة المعوقة إلى أن تتعلم كيفية التعامل مع جسدها ومع زوجها، خاصةً لكيلا تؤذي نفسها. للأسف لم أرَ يوماً ندوةً أو ملصقاً للتوعية بهذه الأمور، وتبقى القضية متعلقةً بالمرأة ووعيها، وبعائلتها ومحيطها”.

ويصل غياب الخدمات إلى درجة تنميط كل من تنتمي إلى هذه الفئة بأنها غير قادرة أو غير راغبة في الزواج، وأحياناً استضعافها واستغلالها. وضمن هذا السياق تخبرنا روى، عن تعرض نساء معوّقات للتعنيف والضرب والطلاق وحتى الاغتصاب، بسبب النظر إليهن على أنهن غير قادرات على تحصيل حقوقهن، وبأنهن سيخجلن من الحديث عما تعرضن له وسيفضلن الصمت.

وتتفق الآراء على أن الرجل مهما كانت حالته، يفضل الزواج من فتاة بلا إعاقة، بغض النظر عن الإعجاب أو الحب، إذ يرى أنها ستكون قادرةً على الاهتمام بعائلتها، ويخشى من نظرة الأهل والمجتمع. وفي الوقت ذاته تبدو حالات الزواج بين شخصين لديهما إعاقة أكثر نجاحاً، نظراً إلى تفهم كل منهما لحالة الآخر. “لذلك لم أعد أفكر في الزواج وتعريض نفسي لاحتمال الاستغلال والتعنيف، وأكرّس وقتي للدفاع عن حقوق ذوات الإعاقة”، تقول روى.

“الجميع يستثنوننا شعورياً”

تشير المتحدثات إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه العائلة والمجتمع في حياة الفتاة ذات الإعاقة، إما إيجاباً أو سلباً. تقول هند حرب (68 سنة)، التي أصيبت بشلل الأطفال في سن الثالثة: “كانت والدتي تتصرف معي وكأنني بلا إعاقة، كبقية أخوتي، وتكلفني بمهام في المنزل كي أعتمد على نفسي، والأهم أنها لم تكن تخجل من وجودنا معاً في أي مكان عام”.

لكنها تشير إلى غياب الخدمات على مستوى المجتمع، وهو ما منعها من الزواج وتكوين عائلة، “فكرت في أنني لو تزوجت وأنجبت، واضطررت يوماً إلى البقاء مع طفلي وحيدةً وتعرّض لوعكة صحية، كيف سأتصرف؟ لو كنت أعيش ضمن مجتمع يراعي أوضاعنا، كنت سأتشجع على هذه الخطوة، وكانت حياتي ستأخذ مساراً آخر”، تضيف حرب، الناشطة في الدفاع عن حقوق ذوي الإعاقة في البقاع.

وتشير إلى أن رأيها هذا لا يعني دعوتها ذوات الإعاقة إلى عدم الارتباط، خاصةً أن “الزمن تغير”، فباتت التجهيزات المتوفرة أكثر تطوراً داخل المنزل وخارجه، كما أن طريقة التعامل شهدت تغيراً إيجابياً.

في السياق ذاته، تتحدث فاطمة عن الثقة الكبيرة التي أعطتها إياها عائلتها كي تعيش حياةً طبيعيةً بلا تمييز: “فتحت لي والدتي باباً واسعاً كي أدخل الدنيا، وأنا من خلال نشاطي المجتمعي تمكنت من الاختلاط وبناء المعرفة”.

لكن في الوقت ذاته تنبّه العائلات التي تخجل من أولادها المعوقين، فتمنعهم من الخروج للتعلم أو العمل أو بناء علاقات، ويزداد الأمر وطأةً بالنسبة إلى النساء، ليصل إلى تكوين شخصيات محبطة وانطوائية. تضيف: “نحن نتحدث عن مجتمع تغيب فيه أبسط حقوقنا، من وجود معينات حركية تساعدنا على الصعود على الرصيف، إلى الرعاية الصحية، وصولاً إلى استثنائنا شعورياً وعدّنا فئةً لا يحق لها الحب والزواج. هناك عائلات ترى أن ابنها المعوق يجب فقط أن يأكل ويشرب وينام، لكن البعض استطاعوا كسر الحواجز والخروج حتى لو سرّاً، وحاربوا محيطهم ليحصلوا على أبسط حقوقهم”.

تضيف روى: “النظرة السائدة إلينا هي الشفقة، وهذا ما نسعى إلى تغييره، فنحن لسنا مختلفين سوى في وجود وظيفة جسدية متعطلة لدينا. عملت لسنوات مع عائلتي ثم محيطي لأقنعهم بقدرتي على القيام بالكثير من المهام وأنا على كرسي متحرك. فكيف إن تحدثنا عن الزواج؟”.

وتوضح أن نسبة الفتيات المعوقات المتزوجات، في منطقتها على الأقل، متدنية جداً، والأمر مرتبط “بنظرة متخلّفة من العائلة والمجتمع، وبندرة قبول شاب من غير ذوي الإعاقة الارتباط بفتاة معوقة”، وتلفت إلى أن الموضوع ليس بالهوّة ذاتها بالنسبة إلى الرجال المعوقين، لأنهم قادرون أكثر على الحصول على مساحتهم وحقوقهم.

“إعاقة مزدوجة”

في لقاء مع الناشط المدافع عن حقوق ذوي الإعاقة في لبنان، فايز عكاشة، يبدأ من الإطار العام لتهميش ذوات الإعاقة، في الأسرة والمجتمع والعمل والتعليم، وحرمانهن من المشاركة في أبسط مستوياتها، وتنميطهن على أنهن غير قادرات، ويصل إلى غياب تضمينهن في أنشطة التوعية التي تستهدف النساء عموماً.

“إذا كنا نتحدث عن برامج تستهدف النساء عموماً، فقلما يتم التركيز على جذب ذوات الإعاقة، وفي الوقت ذاته تغيب المعرفة بين النساء أنفسهن عن أقرانهن من ذوات الإعاقة، فنرى قسماً كبيراً لا يعلم بأن المرأة المعوقة قادرة على الزواج والإنجاب وتربية الأطفال”، يقول عكاشة.

ويشير إلى أن تعرّض عدد من ذوات الإعاقة لتجارب سلبية عند الزواج، بسبب عدم الفهم الكافي لأوضاعهن، وكذلك النظرة النمطية، يدفع أخريات للتخوف من خوض تجارب مماثلة. “كثيراً ما نرى امرأةً معوقةً تتعرض للهجران من الزوج بعد الإنجاب، بسبب ضغط المجتمع عليه لكونها غير قادرة على تربية الأطفال، فيتركها نتيجة أحكام لا أساس لها من الصحة”.

يرى عكاشة، وهو مؤسس جمعية مؤشرات تنموية، ضرورة التمكين المتخصص لذوات الإعاقة، والتوعية بالشراكة الزوجية. ويضيف: “مثلاً على المرأة ذات الإعاقة قبل الزواج، أن تتأكد من تجهيز المنزل وفقاً لاحتياجاتها الخاصة. هذه ليست كماليات، وإنما من حقوقها الأساسية لتكون الحياة المشتركة ممكنةً، لكن تغيب هذه النقطة عن أذهان كثيرات ولا يعددنها طلباً ملحاً، ما يخلق مشكلات كثيرةً بعد الزواج”.

وضمن سياق متصل تتحدث مزنة الزهوري، وهي ناشطة وصحافية في منطقة البقاع، وتهتم بشكل خاص بقضايا اللاجئين واللاجئات: “مؤخراً تُدمج ذوات الإعاقة في لبنان ضمن برامج التوعية بالصحة الإنجابية، لكن من دون الأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهن الخاصة، سواء على مستوى المحتوى، أو قدرتهن على الوصول إلى أماكن تنفيذ تلك البرامج”، وتطرح مثالاً عن دورات تستهدف اللاجئات السوريات، لكن لا تتمكن ذوات الإعاقة من الوصول إليها، سواء كانت ضمن خيمة أو ضمن مركز مجتمعي.

وتنوّه إلى أن صاحبات الإعاقات الذهنية هن الأقل حظاً فيما يخص الخدمات والحماية، وصولاً إلى استثناء المجتمع لهنّ وعدّهن غير قادرات على ممارسة حياة طبيعية. “لنتخيل حفل زفاف تحضره فتاة معوقة تجلس على كرسي متحرك؛ لن يفكر معظم الحضور في أن يقول لها ‘عقبالك’ لأنهم سيفترضون مسبقاً أنها لن تتزوج”.

تقول فاطمة ختاماً: “اليوم نرى ذوات الإعاقة يفرضن أنفسهن في الحياة والعمل والرياضة والكثير من المجالات، والإنترنت يلعب دوراً مهماً في نشر الوعي والتعريف بنا بالشكل الصحيح. نحن محاربات”. وتضيف روى: “نحن قادرات على الحب والزواج والإنجاب وتربية الأطفال وممارسة الحياة الطبيعية، كل ما نحتاجه هو ألا يبخسنا المجتمع قيمتنا”.

تصوير: أحمد الأشقر | كتابة: زينة شهلا

تم انتاج هذا التقرير بدعم من مؤسسة مهارات ومنظمة “Hivos” ضمن مشروع We Lead، تجدر الإشارة إلى أن المحتوى لا يعبر بالضرورة عن آراء منظمة “Hivos”، ينشر التقرير بالتزامن مع موقع رصيف22