تنال الفئات المهمشة عادة النصيب الأكبر من الضرر والمعاناة خلال الأزمات. وفي لبنان، تشير دراسة أعدتها منظمة أبعاد إلى أن النساء عموماً والأشخاص ذوي الإعاقة من أكثر الفئات المهمشة والمنتهكة حقوقهم على أكثر من صعيد. ويزداد الوضع سوءاً حين تتقاطع مستويات تهميش عديدة قائمة على النوع الاجتماعي، كحالة النساء ذوات الإعاقة اللواتي واجهن تحديات مضاعفة خلال جائحة كورونا وما رافقها من أزمة اقتصادية خانقة، لا تزال تداعياتها تلاحقهن إلى اليوم.

ليس هناك إحصاء رسمي دقيق حول أعداد الأشخاص المعوقين في لبنان، تتحدث مصادر عدة أن عددهم/ن هو أكثر من 400 ألف شخص، يحمل منهم نحو 117 ألفاً “بطاقة معوق”، موزعة بين 62 في المئة ذكور مقابل 38 في المئة إناث بحسب وزارة الشؤون الاجتماعية، علماً أن معدل انتشار الإعاقة لدى النساء هو أعلى مقارنة بالرجال وفق الأرقام المعلنة.

ويفسر الناشط في مجال الإعاقة إبراهيم عبد الله هذا التفاوت في النسب إلى “الخجل الاجتماعي للفتيات المعوقات وأهاليهن من حمل بطاقة معوق والاعتراف بها، وكذلك عدم الاكتراث لشؤون الفتاة المعوقة في العائلة في كثير من الأحيان، ما ينعكس سلباً على واقعها لا سيما انخراطها في التعليم وسوق العمل”.

حيث يشير تقرير نشرته منظمة الإنسانية والإدماج HI، بعنوان: “منسيين وغير مرئيين، نتائج الأزمات اللبنانية على الأشخاص ذوي الإعاقة”، إلى أن النساء والفتيات ذوات الإعاقة بشكل عام كنّ أكثر عرضة للتمييز، محرومات من الحصول على الرعاية الصحية والغذاء مقارنة بالرجال من ذوي الإعاقة، وغالباً ما حُرمن من الوصول إلى التعليم والتدريب المهني، ما يجعلهن أكثر عرضة للإبعاد الاجتماعي والفقر. وإن كنّ يعملن فهن أكثر عرضة للتواجد في سوق العمل غير الرسمي أو للاستغلال، وأكثر عرضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي من أقرانهن من دون إعاقات، بحسب التقرير.

(للاستماع إلى المادة عبر البودكاست)

تحديات مُضاعفة

يحتاج الأشخاص ذوي الإعاقة إلى رعاية خاصة وخدمات صحية أكثر من غيرهم، إلا أن الطاقم الطبي في لبنان لم يكن جاهزاً خلال الجائحة لاستقبالهم، أو تقديم العلاج اللازم لهم أثناء فترة الطوارئ الصحية.

غفران ك. (23 عاماً)، والتي تحمل مرضاً عصبياً نادراً منذ ولادتها باتت حركتها على إثره أمراً صعباً ومؤلماً، واجهت تحديات جسيمة لتلقي علاجها الروتيني من الالتهابات المصاحبة، تروي لمنصة عكازة: “كثيراً ما كنت أصل إلى المستشفى بحالة إسعافية، إلا أن أحداً لم يتعاطف مع وضعي الخاص، وكان يتوجب عليّ الانتظار لساعات لإجراء فحوص الـ PCR قبل أن يسمحوا لي بالدخول”.

وما زاد الطين بلة هو درجة حرارة جسدها المرتفعة على الدوام نتيجة تلك الالتهابات، والتي “صوّبت عليّ أصابع الاتهام بالإصابة بالوباء الذي كانت أبرز علاماته ارتفاع الحرارة”، تضيف غفران. وهو ما أثّر على صحتها الجسدية والنفسية، وعرقل علاجها وفاقم من أوجاعها، بعد أن فرضت الجائحة نفسها على القوى الطبية وغيرّت من أولوياتهم.

من جهتها، تتذكر بثينة سليمان أيام إصابتها بالفيروس بأسى، وتقول: “توجّب عليّ التأقلم مع فقد حواس البصر والشم والتذوق، وحذر مبالغ به في استخدام حاسة اللمس”. فلم تكن تعليمات الأطباء بتجنب لمس الأسطح خشية انتقال العدوى يسيرة على المرأة الثلاثينية التي فقدت بصرها في عمر الثامنة عشر بعد إصابتها بمرض المياه الزرقاء، فمن لديه إعاقة بصرية يستنجد باللمس بديلاً عن حاسة البصر، ولهذا بدت الجائحة للمكفوفين/ات كفقدانهم/ن للنظر للمرة الثانية. “لم يخطر على بالي يوماً أن يتحول لمس الأشياء من حولي إلى خطر قد يهدد حياتي وحياة عائلتي” تتأسف بثينة.

بالإضافة للمخاطر الصحية والجسدية، واجهت النساء ذوات الإعاقة تحديات نفسية مُضاعفة أيضاً مثل “القلق من الاستغناء عنهن عندما يحين وقت المفاضلة بين المرضى على الأسرّة وأجهزة التنفس”، إضافةٍ إلى أن “الحجر المنزلي كان ضاغطاً بشكل مضاعف عليهنّ” بحسب الناشطة في مجال الإعاقة آمال شريف التي استطلعت آراء مجموعة منهن، تقول آمال: “كن منهارات، هناك صبية أخبرتني أن منزلها المكون من غرفتين ضيقتين لم يتسع لكرسيها المتحرك الكبير، ولم يسمح لها بالتنقل وسط زحمة المحجورين، ما جعلها حبيسة غرفتها لأسابيع لا تخرج منها إلا لتناول الطعام”.

انفوغرافيك حول أوضاع عينة من الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان، مستخلصة من “تقرير تحليل أوضاع الإعاقة والصحة“، أجرت هذه الدراسة مؤسسة التعزيز الاجتماعي بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية والهيئة الطبية الدولية، عام 2019-2020.

أول المصروفات من العمل

اقتصادياً، زادت الجائحة من التهميش والتمييز والإقصاء بحق الأشخاص المعوقين/ات في سوق العمل، رغم أن أوضاعهم قبل الجائحة لم تكن أفضل حالاً، فبحسب دراسة أطلقتها مؤسسة التعزيز الاجتماعي بعنوان: “تحليل أوضاع الإعاقة والصحة في لبنان لعام 2019-2020”. شملت عينة الدراسة 1050 شخص معوق/ة لبناني الجنسية ولاجئ/ة سوري/ة، كانت أبرز نتائجها أن 20 في المئة فقط من المعوقين/ات لديهم/ن عمل، ونسبة النساء العاملات لا تتعدى 24 في المئة مقابل 76 في المئة من الرجال العاملين.

لذا كانت ذوات الإعاقة أول ضحايا الصرف عندما أجبرت معظم المؤسسات على الإقفال التام أو إقفال بعض الفروع وتسريح موظفيها. هذا ما حصل مع ناريمان أبو علفة (38 عاماً) ذات الإعاقة الحركية. “كنت من أوائل من تم الاستغناء عن خدماتهم بعد 12 سنة من العمل في إحدى الشركات، علماً أنه، واستغلالاً لحاجتي إلى العمل، حملت مسؤوليات أكثر من المهام الوظيفية المتفق عليها في العقد، فكنت أعمل عن سبعة موظفين، مقابل أجر أقل من جميع زملائي، وواجهت تمييزاً في المكافآت والزيادات على الراتب”، تقول ناريمان.

أثّر قرار الفصل كثيراً على حياة ناريمان بعد سنوات من الاكتفاء الذاتي والاستقلال المادي، تقدمت بعدها إلى الكثير من فرص العمل دون أن توفق. تشكو من ذلك قائلة: “ازداد الوضع صعوبة مع حصول أشخاص آخرين على وظائف تقدمنا إليها سوياً، ويمتلكون مؤهلات أقل مني، لكنهم ليسوا من ذوي الإعاقة”.

ذوات الإعاقة خارج خطة الحكومة

همّشت الحكومة اللبنانية الأشخاص ذوي الإعاقة في جميع مراحل إدارتها للوباء، وتجاهلت حقوقهم/ن واحتياجاتهم/ن بحسب الناشطة في مجال الإعاقة آمال شريف، حتى أن حملات مواجهة فيروس كورونا على التلفاز وفي مواقع التواصل الاجتماعي لم تستهدفهم/ن، تقول آمال: “لم تؤخذ موضوعة الإعاقة بعين الاعتبار عندما نُشرت تعليمات الوقاية من الوباء، ولم تراعِ الاحتياجات الخاصة مثل ترجمة البيانات المتلفزة إلى لغة الإشارة من قبل أشخاص مؤهلين، أو استخدام لغة سهلة في البيانات ليكون فهمها متاحاً للجميع. فحُرموا بذلك من معلومات مصيرية يحتاجون إليها لمواجهة هذه الأزمة”.

وتضيف آمال أن “الجهات الرسمية تأخرت في توزيع اللقاحات على الأشخاص المعوقين، ثم طلبت منهم تقريراً يثبت إعاقتهم لتمريرهم قبل الآخرين، كلّفهم نحو 400 ألف ليرة لبنانية، وهو ثمن لم يملكه البعض منهم”. في حين لم تلحظ الحكومة عندما أعلنت منع التجول ومنع الاختلاط كيف سيوثر هذا القرار على السيدات المعوقات اللواتي يعشن بمفردهن، ولم تطلق خطاً ساخناً لتأمين احتياجاتهن من شراء المستلزمات والأدوية وغيرها.

ترى رئيسة رابطة الجامعيين اللبنانيين للمكفوفين نويل تيان، أن كورونا كانت أشد وطأة على المكفوفين والمكفوفات، فبحسب تجربتها لم يعد ممكناً لها الاتكال على شخص مرافق كما يحصل في الظروف الطبيعية تفادياً لنقل العدوى أو الإصابة، فوجدت نفسها عالقة بين فكّي كمّاشة: إما تسيير أمورها بنفسها أو الاستعانة بخدمات التوصيل التي راكمت عليها أعباءً مادية إضافية. تقول نويل التي تعيش استقلاليتها في منزلها: “خلال الحجر لم أستعن بأحد لتنظيف المنزل، وعندما التقطت العدوى أتى شخص من المختبر إلى منزلي لأن السائق الذي لطالما استعنت به رفض توصيلي إلى المستشفى. إزاء ذلك، لم تسأل الجهات الرسمية الأشخاص الذين يواجهون صعوبات حركية أو يعيشون في المناطق البعيدة إذا كانوا بحاجة إلى شيء”.

تأسف نويل، على خلفية تأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي مع ‏استمرار الإقفال العام، لاضطرار الرابطة لتحويل عملها، مثلّ غيرها من الجمعيات المعنية بالمعوقين، إلى تأمين مساعدات صحية وحصص غذائية بدلاً من تمكينهم. وتقول: “بعد أن كنا نسجل الكتب على أشرطة الكاسيت للمكفوفين ونعقد دورات تدريبية تفيدهم في مجال العمل، ونناصر قضايا وحقوق ذوي الإعاقة، اقتصر عملنا خلال الجائحة على تقديم المساعدات من تأمين صحي إلى حصص غذائية للمحتاجين بسبب ازدياد صعوبة الأوضاع”.

نعمة التحول الافتراضي

كانت الجائحة بالنسبة إلى غفران ك. وهي لاجئة سورية تعيش في لبنان، سيفاً ذا حدين. تقول: “على الرغم من سلبياتها الكثيرة ومعاناتي الصعبة لتلقي العلاج في المشفى، إلا أنها كانت فرصتي الوحيدة لإكمال حلمي، وإتمام تعليمي”. فقبل أن يصل الوباء إلى لبنان، حصلت غفران على منحة تعليمية من قبل إحدى المنظمات الإنسانية، وكان على المقبولين في هذه المنحة أن يخضعوا لبرنامج تحضيري مدته ستة أشهر قبل إجراء امتحان القبول والبدء بالدراسة الفعلية.

تروي غفران “تحمّلت صعوبة التنقل في وسائل النقل غير المجهزة لذوي الإعاقة، والإهانات المتكررة نظراً للوقت الذي أستغرقه للصعود والنزول، لكن وضعي الصحي الذي عاد للتدهور مجدداً منعني من الحركة فتوقفت عن الحضور”. في ذلك الوقت اجتاحت الجائحة دول العالم وفرضت الحجر الكامل، فاعتمدت المنظمة الراعية للمنحة بعض الحصص التعليمية عن بعد، “وجدت هذه الفرصة رحمة من السماء لأنني تمكنت بفضلها من متابعة الدروس، ثم التقدم إلى امتحان القبول الذي نجحت فيه” بحسب قولها.

تتابع اليوم غفران دراستها الجامعية عبر الانترنت في اختصاص الاتصال والأعمال، بفضل إصرارها ومثابرتها على ملاحقة حلمها، إلا أنها تعتبر الاستثناء عن القاعدة، فقد حذّرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” عام 2021 من أن الأطفال ذوي الإعاقة هم أكثر عرضة لعدم الوصول إلى التعليم، وسيكونون أكثر عرضة للتسرب المدرسي نظراً لمحدودية المعلمين والمواد التعليمية الخاصة والأدوات التكنولوجية الحديثة للتعليم التي تراعي احتياجاتهم، وهو ما أكده أحدث استطلاع لمنظمة HI، حول ارتفاع معدل التسرب المدرسي إلى نسبة 45٪ من الطلاب في عام 2022، بعد أن أصبح 72٪ من الأهل غير قادرين على تحمل تكاليف تعليم أبنائهم.

رغم تخبط دول العالم لمواجهة وباء يتفشى لأول مرة ويحصد الأرواح، إلى أن التحديات التي واجهها الأشخاص المعوقين والنساء المعوقات كان بالإمكان الحد منها لو تم الالتفات إلى احتياجاتهم/ن، وإذ لا تزال تبعات كورونا مستمرة على بعض من قابلناهن، هناك متسع من الوقت للوقوف مع كثيرات غيرهن، ليكن مطمئنات أنه خلال الأزمات المقبلة لن يكنّ وحيدات ولن يكون الألم ذاته.