تعيش كأجنبي في بلدك عندما لا تتكلم لغته، وهو حال أفراد مجتمع الصّم الذين يناضلون في مساحة ضيقة يرسمها لهم المجتمع الأوسع، ليصبح تطور شخصيتهم وخبراتهم وتجاربهم مرهوناً بالقدر الذي يغامرون فيه للخروج من تلك الحدود المرسومة، وتصبح المغامرة أصعب وأخطر إذا كنت أنثى!

“أن تكوني أنثى يعني جنس ضعيف، وصماء أيضاً يعني ضعيفة أس اثنين” باستخدام الكتابة والإشارة ولغة الجسد تحاول “لميا – اسم مستعار” البوح لموقع “عكازة” عن المشاكل التي تواجهها باعتبارها فتاة صماء وطالبة جامعية.

“الصمت لم يكن يوماً مشكلة للأصم، لكن أكثر الأوقات التي أفتقد فيها القدرة على النطق هي عند رغبتي بالصراخ من ظلم أتعرض له” تتوقف لميا عن الكلام وتتنهد بصوت تنفس عالي يشبه مواء قطة، يُثير الصوت انتباه رواد المقهى الذي اختارته لإجراء المقابلة، يعود الحضور إلى أمورهم الخاصة بمجرد أن تبدأ الفتاة باستخدام لغة الإشارة.

وتتابع “منذ أيام أثناء ذهابي إلى الجامعة تعرضت للتحرش في حافلة عامة من قبل رجلٍ كبيرٍ في السن، التصق بي من الخلف مُستغلاً ازدحام الباص وقت الظهيرة، وعند فشلي في دفعه والابتعاد عنه أردت طلب المساعدة أو الصراخ فيه وفضحه، لكن كل تلك المحاولات كانت بلا صوت”.


حملة مناهضة العنف تترك الصم وراءها

يتزامن نشر هذا المقال مع انتهاء الحملة العالمية لمناهضة #العنف_القائم_على_النوع_الاجتماعي، حيث قدّمت مؤسسات الأمم المتحدة وغيرها “الدعم والتمويل” للكثير من الجمعيات والمبادرات داخل سوريا التي تهتم بتوعية النساء تجاه حقوقهنّ الاجتماعية والقانونية، وصحتهنّ النفسية والجسدية، لكن لم يسجل أي دعم لنشاط يتعلق بالنساء من مجتمع الصم سوى عبر الجمعيات التي تُعنى بهنّ وعددها اثنتين فقط في دمشق وريفها.

“هنالك تقصير كبير من قبل المنظمات والمؤسسات الحكومية لدمج الصم في المجتمع، أو أخذهم بعين الاعتبار عند تنفيذ البرامج والأنشطة”، تتحدث مترجمة لغة الإشارة “فرح التل” لموقع عكازة عن تجربتها وخبرتها التي بلغت 12 عاماً في التعامل مع مجتمع الصم؛ وتضيف “جلسات التوعية التي تقيمها الجمعيات المعنية بقضايا المرأة يمكن لأي امرأة سامعة أو ربما من ذوي الإعاقة الحركية أن تحضرها وتستفيد منها، على خلاف الفتيات الصم، لا يوجد مراعاة لخصوصية هذه الفئة، ورغم أن بعض الجمعيات قد بدأت تهتم بهنّ، لكن عددها لا يزال قليلٌ جداً”.

مشاكل قانونية كثيرة، وغياب مصادر التوعية التي يمكن للصم الاستفادة منها دفع جمعية “إشارتي” الموجودة في منطقة الحلبوني إلى تخصيص جلسة للتوعية القانونية للصم، بالإضافة إلى جهودها المستمرة في تعليم لغة الصم وتأمين مترجمين “لغة إشارة” للعديد من جلسات التوعية الصحية ضمن مركزها أو في بقية الجمعيات.

وتنبه فرح المترجمة المُحلفة من قبل وزارة العدل، إلى أن مجتمع الصم صغير “والكل بيعرف الكل”، وهذا سبب رئيسي في تجنب العديد من النساء في هذا المجتمع مشاركة قصصهنّ والمشاكل أو العنف الذي يتعرضنّ له، لذلك هناك حاجة ماسة للعمل على توعية النساء الصماوات قانونياً، ومشاركة تجارب اجتماعية معهنّ تسمح لهنّ بالتفريق بين الصح والخطأ، وتحميهنّ من الوقوع ضحية الاستغلال.

وتشير “د. هالة شاهين” الناشطة في المجتمع الأهلي، إلى أن العنف الذي تتعرض له النساء الصماوات يبدأ من دائرة الأهل أحياناً ولا ينتهي بنظرة المجتمع لهنّ، فالغالبية تتعامل مع الأصم باعتباره يعاني من عيب خلقي أو مرض ومشكلة تتطلب الحل، لكنه في الواقع مجرد اختلاف باللغة، وهذا أحد أكثر أنواع العنف المجتمعي الذي يتعرض له الأصم ضمن محيطه من السامعين.

بدورها تكشف فرح أن “التزويج المبكر” لدى الفتيات الصم مازال حاضراً، فعند تجاوز البنت لسن 15 عاماً تبدأ محالات تزويجها للتخلص من “همها”، خاصة إذا كان أحد أفراد الأهل من السّامعين، ما يدفع الفتيات للشعور بمزيد من الضعف والاغتراب عن عائلاتهنّ.


ظلم الصم ولا ظلم السّامعين

خلال حضور جلسة التوعية القانونية التي استضافتها جمعية “إشارتي” حاولنا الاستماع إلى مجموعة من قصص السّيدات اللاتي تعرضنّ للاحتيال القانوني أو الابتزاز الالكتروني أو الاستغلال الجنسي، ورغم الوعود بإخفاء الوجوه والأسماء، إلا أن العديد من النساء رفضنّ مشاركة قصصهنّ.

وتفسر فرح التل ذلك بالقول: “يكفي أحيانا ذكر المنطقة اللي تعيش فيها الصماء لتفتضح شخصيتها، أو ذكر الكلية التي تدرس بها، كون عدد الصم صغير، واللاتي وصلنّ إلى التعليم الجامعي أقل، وهذا دافع قوي يمنعهنّ من المشاركة”، وتشير إلى أن النقص الكبير في الخبرة الاجتماعية والعاطفية لدى نساء مجتمع الصم يجعلهنّ عرضة للاستغلال الجنسي والمادي مقابل الحصول على الحب، وكذلك ضعف المستوى التعليمي لدى النسبة الأكبر منهنّ.

“ما بكفي خرسا لسّه بدها تحب كمان؟!” إحدى الوصمات الاجتماعية التي تواجهها النساء الصم، ورغم اشتراك أفراد هذه المجتمعات بفقد السمع أو النطق إلّا أن ذلك لا يخفف من قسوة حكم البيئة المحيطة على من يرتكب الخطأ بنظر هذا المجتمع الصامت.

وفي هذا السياق تروي لنا إحدى السّيدات قصة تعرضها للاستغلال الجنسي والاغتصاب من قبل “حبيبها” الذي تحول فجأة إلى “جلادها”، وصلت إلى حد التهديد بنشر فيديو عن علاقتهما العاطفية في أحد الفنادق إذا لم تمنحه صيغتها من الذهب، والذي عرضها لمجموعة من المشاكل العائلية والقانونية مستغلاً خوفها من “وصمة العار التي يمكن أن تلحق بها حتى الممات”، ومن جهلها بالقانون الذي يسمح لها بتقديم شكوى ضده.

“حتى لو أخدوا لي حقي منه.. ما دفعته وسأدفعه سيكون أكبر بكثير”، بالإشارة إلى نظرة باقي مجتمع الصم الذي يمكن أن تُطرد من رحمته، وهذا ما جعلها تتورط كثيراً قبل أن تطلب المساعدة القانونية.


الصم في القانون

في المقابل لم ينفع “خديجة” العاملة في مشغل للخياطة مساندة عائلتها لها، من حل مشكلتها القانونية المتعلقة بأمور الإرث بسبب “تململ” المحامين الذين توجهت إلى مكاتبهم طلباً لتمثيلها، ورغم مرافقة ابنتها لها كمترجمة إلّا أن الكثير من المحامين لم يقبلوا تمثيلها بسبب “ضيق ذرعهم وضجرهم من الوقت الذي قد تحتاجه لشرح قضيتها بلغتها الخاصة”.

وفي هذا الشأن اعتبر “د. عيسى المخول” أستاذ القانون في جامعة دمشق، أنّ حل ذلك يكون عبر تدريب رجال القانون والشرطة والأمن على بروتوكلات خاصة بالتعامل مع الأشخاص “من موكلين أو متهمين” وفقاً لاحتياجاتهم، مشيراً إلى “أهمية تدريب رجال الشرطة والمحققين والقضاة حول كيفية التعامل مع خصوصية أفراد مجتمع الصم، فعدم تخصيص إجراءات لكيفية التعامل معهم، يجعلهم ضحية عنف غير مقصود”.

وأشاد د. المخول بجلسات التوعية القانونية معتبراً أنها “تجربة مهمة يجب تكرارها والتوسع فيها بتخصيص جلسة حول التوعية بقانون الجرائم الالكترونية الذي تقع ضحيته العديد من نساء مجتمع الصم، بسبب اعتمادهنّ على مكالمات الفيديو كوسيلة للتواصل مع أقرانهم، وجهلهن أن الآخر لا يمكنه استغلال أي فيديو أو صور لهنّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يوجد قانون يعاقب على ذلك ويحمي النساء”.

في روايتها “يا دمشق وداعاً” تقول الأديبة غادة السمان إن “البشر عجينة من كيمياء المشاعر والعواطف الغامضة والظلال والإضاءات المفاجئة”، لكن في مجتمع الصم فهذه العجينة من النساء فيها الكثير من العواطف والظلال، دون أي نوع من الإضاءات بسبب غياب الخبرة الاجتماعية أو الرعاية الكافية، وإذا كان الهدف تمكين الصم ورعايتهم فإن ذلك يبدأ من حقهم بالوصول إلى المعلومة مكتوبة أو مرئية أو مترجمة بلغة الإشارة حسب احتياجات الشخص، والحرص على عدم ترك أي فئة خارج حدود المجتمع أو الحياة.

كتابة: مروة جردي