قطعة بلاستيك، تلوها علبة قصدير، ثم علبة بلاستيكية أخرى، هكذا سيمتلئ الكيس الكبير الذي يحمله نبّاش القمامة على ظهره وهو يسير محنياً وعينه على الأرض، كانت تلك حال ‘محمد’ قبل أن يدوي صوت انفجار عنيف جعله يغيب عن الوعي لساعات طويلة، ليستفيق في أحد مشافي مدينة الحسكة شرق سوريا، منقولاً من مكب النفايات الواقع بالقرب من قريته.

مرّ على الحادثة التي وقعت في تموز عام 2018 عدة سنوات، ولم يتغير في نمط حياة الفتى الذي بات في السادسة عشرة من عمره أي شيء، سوى إنه بات يستخدم عكازاً خشبية أثناء عمله، وما زال يتشارك العمل مع الأطفال الذين قاسموه صوت الانفجار، رغم أن أحدهم قضى يومها؛ حادثة لا تزال قاسية كلما رويت، فما بقي من ساق الفتى نمى كبقية جسده، لكنه لا يستطيع تخيل شكلها فيما لو أنها بقيت سليمة.

قصص متشابهة بنتجة واحدة

مع العودة التدريجية لسكان مدينة الرقة عقب انتهاء المعارك فيها بخروج تنظيم داعــش في الربع الأخير من عام 2017، عاد ‘محمد العبد’ لتفقد منزله في حي المشلب، يقول في حديثه لـ عكازة: “دخلت فناء المنزل وأنا أجول بناظري مستعيداً صورته قبل الدمار الذي لحق به، كنت في تلك اللحظة أفكر كيف سأقوم بإعادة ترميمه قدر المستطاع ليكون صالحاً للسكن، لكن الصور انقطعت بصوت يثير الرعب، كل ما أتذكره بعدها أن الناس انقسمت بين التحذير من احتمال وجود لغم آخر، وضرورة حملي إلى أقرب نقطة طبية”.

تم إسعاف محمد إلى عيادة خاصة، ليتم بتر قدميه على الفور بهدف إيقاف النزيف وخياطة الجرح، ليعود بعد أيام من الحادثة مع عائلته إلى المنزل ذاته بعد أن تم التأكد من خلوه من مخلفات الحرب، وتتحول حياته من شخص يعمل بالنجارة إلى صاحب كشك صغير لبيع السجائر والقهوة على كرسي متحرك.

حوادث كثيرة مشابهة تسببت بحالات وفاة أو بتر أطراف نتيجة لانفجار مخلفات الحرب على امتداد الجغرافية السورية، إذ تشير البيانات إلى أن أكثر ضحايا الحوادث المسجلة خلال الأعوام الثلاث الماضية هم من رعاة المواشي والمزارعين أو من العاملين بـجمع فطر الكمأة في المناطق النائية التي لا تزال مليئة بالألغام.

زينب كانت واحدة من هؤلاء، إذ كانت تعمل في أرض زراعية مملوكة لذويها بالقرب من بلدة الكسرة بريف دير الزور شرقي سوريا، تقول في حديثها لـ عكازة: “كنت أعمل ومجموعة من الفتيات على شتل القطن، كانت الأرض قد زرعت قبلاً بالخضار الشتوية، وحين اقترب موسم زراعة القطن لم يكن في حسبان أحد أن يكون ثمة ألغام أو عبوات ناسفة فيها، وخلال اليوم الثاني من العمل انفجر لغم أرضي قيل لي لاحقاً أنه لغم مضاد للأفراد، أضطر الأطباء حينها إلى بتر ساقي اليمنى، في حين أصيبت ثلاث فتيات أخريات بشظايا الانفجار”.

تضيف الفتاة التي وصلت إلى الثلاثين من عمرها: “فقدان الساق بالنسبة للرجال أمر لا يعيب، فهناك الكثير منهم ممن تابعوا حياتهم بشكل اعتيادي، إلا أن الفتاة التي تصاب بذلك نادراً ما تصبح زوجة أو أماً، ولن يتقدم لخطبتها أحد وكأن بها عيب أو مرض! ناهيك عن نظرة الشفقة التي تسكن عيون الناس كلما شاهدوا فتاة مبتورة الساق”.

استجابة متواضعة

لا يوجد حتى الآن إحصائية جمعية لأعداد المتضررين في مناطق شمال شرق سوريا، في حين تشير مصادر أهلية إلى وجود 1800 حالة بتر أو ضرر في الأطراف في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور.

وكانت الحكومة السورية قد افتتحت قبل أشهر مركزاً للأطراف الصناعية في المشفى الوطني بمدينة القامشلي، وبحسب مدير المشفى الدكتور عمر العاكوب، تم حتى الآن تقديم 20 طرفاً سفلياً ويتم العمل على 5 أطراف إضافية، مشيراً إلى أن المركز يقدم خدماته بوصفه الوحيد من نوعه في المنطقة، بعد أن تم تدريب الكوادر وتأهيلها بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والهلال الأحمر العربي السوري.

ورغم الأعداد المتزايدة من المصابين نتيجة الألغام الأرضية ومخلفات الحرب، إلا أن المنظمات المعنية لا تزال تهمل هذا الملف، ففي تقرير سابق لمنظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن 86 ألف جريح في سوريا أفضت إصابتهم إلى بتر في الأطراف، في حين اعتبر رئيس رابطة الأطباء الدوليين، أن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع في سوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

كتابة: محمود عبد اللطيف