تخيل معي نهاراً صيفياً دبقاً تتميزُ به اللاذقية، وشخصين من ذوي الإعاقة: شللٌ سفليٌ، وأطرافٌ صناعيةٌ في القدمين..

قررنا الذهاب للمسبح القريب من مكانِ سكنِنا، الدخولُ كان أسطوريّاً، كلُّ العائلات والأطفال والشباب توقفوا عن السباحة، ومنهم من شعر بالغرق عندما رأوا الكرسيّ مرفوعةً مثل النعشِ كي تجتاز الدرج، وصديق المُشيّع يعاني مع عكازيهِ وأطرافهِ في الصعود. الذهولُ سيدُ الموقف فهم جاؤوا هرباً من الحرِّ، ولم يتوقعوا أن يرَوا جنازةً، أو ما يُسمى مساعدة لأشخاصٍ من ذوي الإعاقةِ، فالذهولُ يبقى ذهولاً.

وصلنا إلى الطاولةٍ وبدأتُ بالتجهيز للنزول إلى المسبح، ولا يزالُ الذهولُ سيّدُ الموقف، فصورةُ السباحين المرسومةُ في أذهانِهم تملكُ عضلاتٍ وأجسامٍ متناسقةٍ، تشقُّ الماء كالسكين، وليست أطرافّ صناعيةً، أو كراسي مدولبة.

وهنا ينتقلُ الجميعُ للتصرف التلقائيّ الثاني وهو فرضُ المساعدة وليسَ السؤال إذا كان بالإمكان تقديمها، وهذا ما نعتبرُه أمراً مزعجاً أكثرَ منَ الذهول الأوليّ الذي اعتدنا عليه وأصبحنا نتعاطاه بالفكاهةِ، فنحن لا ننكرُ أبداً أنّنا من الممكنِ أن نطلبَ المساعدة بسبب صعوبة الوصولِ وليس عجزاً منا.

رفضنا المساعداتِ، وشكرناهم على أمنياتهم بالصحةِ والشفاء، والدعاء بأطرافٍ جديدةٍ من لحمٍ ودمّ ونخاعٍ شوكيّ لا يزالُ بالغلافَ لم يستعمل.

أخيراً الشللُ في الماء ينتظرُ البترَ لينضمَ إليه، ولكنه يفضلُ الانتظار كي يخفَّ الازدحام وينسلَّ في الماء كما لو أنّه طرفٌ طبيعيٌّ مليءٌ بالعضلاتِ، بعد قليل كان الشللُ والبترُ في المسبحِ لا حرارةَ ولا تعرُّق، تمت المهمةُ بنجاحٍ، وشعورُ الرضا هو سيدُ الموقف، وهذا المسبحُ لنا.

على الطاولةِ كانت بقايانا الكرسيّ المدولبُ، والأطرافُ والعكازات، والهواتفُ والملابسُ، وأكياسُ الشيبس والبسكويت.

كلُّ ما قرأتموه في الأعلى، هو مقدمةٌ للمشهدِ التالي، الذي لن أذكره بالتفصيل، فما حصل أن إحدى العاملاتِ في المسبح، وخلال جولتها المعتادة، توقفت كثيراً أمام طاولتنا، لم يغريها الشيبس ولا الهواتف ولا الملابس، ما أدخلها في حالةٍ من الصدمةِ هو نصفُ طرفين مع بنطال جينز أزرق، ينتظران مالكهم ليخرج من المسبح.

تنقلُ نظرها بين الأطراف والمسبح، ولا تستوعبُ المنظر، وتفتح فمها وتغطيه بيدها، لتبدأ رحلة الفضول معها، ثم جولتها على أطراف المسبح، لتخاطبُ المنقذين، وتشيرُ بيدها إلى طاولتنا وأطرافنا، واحداً تلوَ الآخر، ترفع يدها وتشير للجميع، انظروا هناك بنطالُ جلد مع أقدام، هل هذا لحمٌ أم حديد؟ سبحان الله على هذا الاختراع!

الفضول البشريّ هنا ليس فضولٌ بهدف المعرفة، بل هو فضولٌ محزنٌ، فضول فيه من الأذى الكثير، يصعب شرحه حالياً، لأنه من المحزن أنّنا في بلد يعيش حرباً منذ عقد، وشوارعه مليئةٌ بذوي الإعاقة، لا نملكُ البنية التحتية المؤهِلة، ولا حتى الوعيُ الكاملُ بذوي الإعاقة، وكيفية التعاملِ معهم كأنهم أشخاصٌ طبيعيون، وكأن الأمر يتطلبُ عشرَ سنينٍ أخرى أو أكثر!

تغلبنا على هذا الفضول بطريقةٍ بسيطةٍ، فالشلل سبحَ ما مسافته كيلومتراً واحداً، والبتر تمكنَ من الغوصِ لأكثرَ من دقيقتين بنفس واحد، وبعدها ذهبنا لتناول العشاءِ في مطعم الوجبات السريعة، وتلكَ حكايةٌ أُخرى …

كتابة وتصوير: خليل سرحيل