بعد عناءٍ طويلٍ وصلت إلى المشفى لإجراء صورة شعاعية للأسنان، لكن الجهاز كان في فترة الصيانة، فخرجتُ إلى الشارع أنتظر تكسي تعيدني لمكان سكني .. طال انتظاري، وبدى شكلي غريباً في نظر المحيط، وأحسوا بأنني أريدُ المساعدة بمجرد أنّي على كرسي متحرك.

سبّبت هذه الأنظارُ حالة مؤقتة من الجمود، فالمرضى والمارّة والسيارات يروني بعين الفاحص لا بالعين الطبيعية، فبدأوا بالاقتراب والسؤال عن حاجتي لتكسي، كي يساعدوني بالحصول عليها، شكرتُهم ورفضتُ المساعدة، وقلتُ لهم أنّني قادرٌ على هذه المهمة التي يرونها شيئاً يستحيلُ عليّ تحقيقه.

عندها اقتحم المكان شابٌ ضخمٌ يرتدي زيّاً رياضيّاً، له ذقن طويلة للغاية، ولديه سيارةٌ خاصة، ليقول لي: “أمرني لوين طالع؟” وهمَّ بمسك الكرسي! رفضتُ مساعدته وشددتُ الفرامل، ودعيتُ له بالرزق والصحة مع ابتسامة شاكرة، ليجيبني من الأعلى وبلهجة غاضبة للغاية: “فوق ما حسيت بإنسانيتي، حبيت ساعدك لوجه الله، هيك عم تعمل! ما الحق عليك، الحق ع يلي حب يساعدك!”

ورحل وهو يضربُ كفَيه ويهزّ رأسه، بعد أن حرمته بتصرفي هذا من دخول الجنة، وعليه الآن البحث عن حسناتٍ في مكان آخر!

من بعيد سألني شابٌ لماذا رفضتُ خدمة الرجل المجانية، أجبته بأنّي لست بحاجة للمساعدة أو للخير، ومستمتع لحد ما بهذا العمل الذي أقومُ به بمفردي، فمن أتى إلى المشفى وحده يمكنه العودة لوحده.

فقال لي أنه يعملُ على سيارة أجرة ويمكنه إيصالي للمكان الذي أريده، وافقتٌ ولم أساوم على المبلغ كعادتي قبل الصعود، وعندما وصلتُ ناولته الأجر المستحق، فرفض بكل أدب وأصرّ على أن ذلك ليس شفقة أو صدقة، فقد فهم من الموقف السابق ما يسببه فرض المساعدة من ضررٍ نفسي، وبالفعل صدّقتُ إحساسه وأعدت النقود لمحفظتي وشكرته على لطفه.

إنّ المقاربة الخيرية مفيدةٌ نوعاً ما في قضايا ذوي الإعاقة، لكنها وحدها لا تكفي، فغياب الوعي الجمعي بحقوق المعوقين وحاجاتهم الأساسية سيكون له أثر سلبي على قضية دمجهم داخل المجتمع، وسيجعل أسلوب “فرض المساعدة” هو الطريقة الوحيدة التي تريح ضمير البعض.

في النهاية، أنا كشخص من ذوي الإعاقة وبالرغم من أن إعاقتي هي شيءٌ ظاهر كصفة أساسية لديّ، لكن لا أريدُ من الآخر ألا يرى غيرها ويعاملني على أساسها .. نريد مجتمعاً واعياً يعرف ويسأل ويتعلم ويقترح الحلول ويعمل عليها، لا نريدُ مجتمعاً يرى من الشخص المعاق فقط الكرسي أو العيون الزجاجية أو العكازة، ويحذف ما تبقى من صفات!

كتابة: خليل سرحيل