يقولون أن الجسد مقدس وهو معبد يجب الحفاظ عليه والاهتمام به، ولكن ماذا يفعل من تهدم معبده وتحول الى أطلال. أطلال تعطي الألم والأنين عوضاً عن الفرح والنشوة وتغير بهذا كل شيء إلى الأبد، أنه هجران الذات لنفسها القديمة ومعها هجران المعرفة التي كونتها عن هذا الكون وأنا أقف على قدمي.

أنا عاصي، عمري 30 عاماً، عندما كنت في الـ 20 من عمري أسير باتجاه المستقبل تغير قدري وتحولت إلى معبد مكسور ورحلت كل مشاعري الجميلة، والآن أنا مقعد على كرسي مدولب بسبب حادث سير.

سألني الطبيب وأنا في سرير العناية هل تشعر بشيء فأجبته “نعم أشعر بالألم”، سألني أين فلم أعرف، نظرت إليه فوجدته يمسك إبرة ويحاول معرفة إن كنت أصبت بالشلل التام أم لا، من خلال وخزي في أماكن متفرقة من قدمي. إنها نفس القدم التي كانت ترقص وتضرب الأرض في عرس البارحة لكن كل شيء تغير الآن بعدما أكد الطبيب بأن قدرتي على السير مجدداً شيء لن تتحقق الآن، وأن عليّ انتظار المستقبل لربما يوجد العلاج.

تحولت إلى شخص جديد بلا سير أو جري أو أقدام، بل أصبحت العجلة تعني السير في قاموس تعريفاتي الجديد، وتحول الجسد الذي كنت أراقبه في المرآة وأنا أحلق ذقني معتزاً بعضلاتي ورجولتي إلى كتلة من السعال والأوجاع، فلا يظهر في المرآة ذاتها سوى قطب العمليات والجروح بعد أن غابت صورتي الطبيعية التي كنت عليها في السابق.
يقول الطبيب بأن عليّ التأقلم وإيجاد طرقٌ جديدة للأشياء التي أريد تحقيقها، طرق لا أحد يعرفها هنا مهما سألت عنها!

لقد تغير إحساسي تجاه جسدي وتحولت نظرتي عنه إلى كونه مصدراً للمتاعب والأوجاع، تقبلي لحقيقة إعاقتي أخذ مني الكثير من الوقت، فأصبح الكرسي المدولب عدوي والسرير ملاذي الآمن، ولم أرغب مطلقاً في الظهور أمام للمجتمع، ولا حتى استقبال الضيوف القادمين لرؤيتي، اليأس والاستسلام كانا أسلوب حياتي.

خلال تلك السنوات وُضعت مجبراً في امتحان التعرف على ذاتي الجديدة جسدياً ونفسياً، وأستطيع اليوم تقسيم تجربتي إلى شقين أساسيين وهما الجسد الذي فقدته والنفس التي تحطمت!

وسأبدأ بالجسد، فقد تغيرت حياتي من إنسان صحي ويمارس الرياضة إلى شخص يحتاج بعد الاستيقاظ لتناول 4 أنواع من الحبوب والأدوية للأمراض التي أعاني منها بشكل دوري وروتيني، نظرتي البائسة إلى جسدي جلبت معها ادماناً على المسكنات، فهربت بآلامي وأحلامي إلى المزيد منها.

أما حالتي النفسية فقد تغيرت بعد أن أصابني الأرق، عدا عن اكتئابي في سنواتي الأولى وانسحابي من المجتمع وانسحابي حتى من منزل أهلي.

كل ما كنت أريده حينها سريراً وغرفة معتمة وحاجة ملحة لأن ينساني الجميع، ليأخذ وجودي وجسدي بالذوبان والاضمحلال حتى الموت، كنت أعتقد أني مسخ لا يحق له النظر إلى المرآة. وفي الطرف الآخر حيث المجتمع يعيش من غير أن يفكر بي تقاسمنا الجهل بالإعاقة، أنا كمختبر لألم الإعاقة، والمجتمع الجاهل بوجباته ونظرته لذوي الإعاقة، عدا عن غياب الخدمات حتى هذا اليوم ولهذا كان انسحابي حينها حل مرضٌ للطرفين.

الأيام تمضي وإحساسي بالزمن قد تغير، أنظر حولي أراقب عائلتي وإخوتي، كلٌ منهم يشق طريقه ويطارد أحلامه وأنا في سريري تحولت إلى شيء تقتنيه الأمهات وتقوم بالاحتفاظ به في ركن خاص. في منزل والدتي كنت أعتقد أني سأبقى فيه إلى الأبد ولم يكن يزعجني هذا الخاطر، وخصوصاً أن المثل الشعبي يقول “القرد بعين أمو غزال”.

لكن حاجة ملحة ظهرت في سريرتي أردت أن أتعرف على نفسي الجديدة بكل ما فيها من آلام وعيوب، أردت أن أغير واقعي غير الطبيعي وأن يكون لي مكان في المجتمع وخصوصاً بعد أن بدأ الحديث عن الدمج يزداد في سوريا التي أحسست بأنها متاحة للجميع وكأنها أشبه الجنة!

في عمر الخامسة والعشرين استطعت تكوين نظرة عن ثلاث شخصيات عني أو كنتها وأتصارع معها حتى اليوم، وهي عاصي المعافى السليم الذي فقدته للأبد، وعاصي المنسحب والمكتئب، وعاصي ما بعد الرماد الذي يؤمن بالدمج، ويؤمن بأن لديه حلماً يسعى لتحقيقه. ومن هنا بدأت بتكوين وعي جديد عن نفسي وعن جسدي وحدودي التي يمكنني الوصول إليها رغم إعاقتي، ولا أنكر بأن الفشل كان مرافقاً لي في كثير من المحطات خصوصاً بسبب حالتي النفسية واكتئابي المستمر ونظرتي السوداوية تجاه الأشياء.

لكن هذا الوعي الذي كونته عن نفسي لا يمكن تفريقه عن أي وعي يكّونه صاحبه عن نفسه، لأن حالة الإنسان الطبيعية التعرف على ذاته والوصول لها وتحقيقها، ولا علاقة مباشرة للإعاقة سوى أنها أصبحت جزءاً من شخصيتي وليست كامل شخصيتي.

اليوم بعد هذه السنوات لا أزال في معارك مع جسدي ومع الاكتئاب واليأس ولكني أحاول جاهداً كما يحاول أي شخص بأن ينجح، لكن وصولي إلى هذا المكان الذي استطعت فيه تكوين نظرة عني كان أساسه هو التجربة وإعادة تعلم القيام بالأشياء السابقة ولكن بطرق جديدة أستطيع شرحها للطبيب والمجتمع لأني كنت بطلها يوماً ما، بطل يحاول أن تكون حياته طبيعية.

كتابة: خليل سرحيل