يرتبط مفهوم المساعدات الاجتماعية في سوريا بمصطلح “أهل الخير”، إذ لم تصل البلاد إلى مرحلة الرعاية الحكومية التي تجعل من تبرعات “المُحسنين” رديفاً لهذا الدعم وليس أساساً له.

في المقابل فإن الأشخاص ذوي الإعاقة هم الأكثر تأثراً بتغير مستوى الدعم المُقدم مهما كان مصدره بسبب ديمومة احتياجاتهم مقارنة مع غيرهم، إذ تشير التقديرات إلى أن تكاليف العناية بشخص أو طفل معوق تتجاوز أضعاف تكلفة العناية بشخص آخر، وتختلف تلك النفقات حسب نوع الإعاقة واحتياجاتها.

تقول أم المجد، والدة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها مصابة بشلل الطرفين السفليين، إن آخر مرة قامت بحساب الكلفة الشهرية لرعاية ابنتها كانت منذ ثلاث سنوات. أما اليوم، بعد الغلاء الفاحش الذي طال كل شيء، باتت تعتمد بحسب قولها: “ع التوكل”.

ولا يعني ذلك أن الأمور جيدة، فقد أوقفت جلسات العلاج الفيزيائي لابنتها منذ أكثر من عام لعدم قدرتها على تحمل كلفتها، فضلاً عن عدم وجود مؤسسة أو منظمة تتكفل بالأمر، إنما تنتظر تبرعات “أهل الخير” الذين لم تعد مساعدتهم منتظمة كما السابق نتيجة الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد بعد الحرب.

كذلك الحال مع بسام علي (59) عاماً، أب متقاعد لابن وابنة خُلقوا مع إعاقة ذهنية شديدة، يعمل بسام كحارس ليلي براتب 250 ألف ليرة سورية شهرياً (حوالي 18 دولار أمريكي)، ويقول لـ “عكازة” إن ابنه -الذي صار وحيده الآن بعد وفاة الابنة- يحتاج لمساعدة بكل سلوكياته، وهذا ما يضطره لشراء فوط خاصة بشكل منتظم، سعر الكيس الواحد منها حوالي 3.5$، ويحتاج إلى أربعة أكياس شهرياً، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الأدوية العصبية التي ارتفع ثمنها ثلاث مرات خلال أقل من سنة، وهو ما يجعل رعاية ابنه مهمة شاقة تزداد تكاليفها كل يوم.

أين الدور الحكومي؟

تبلغ نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة في سوريا 28 بالمئة، بحسب إحصائية الأمم المتحدة لعام 2021، أي أن أكثر من ربع السكان لديهم إعاقة ما بدرجات متفاوتة. وبحسب أيمن غرّة، الأمين العام للمجلس الفرعي لشؤون الأشخاص ذوي الإعاقة في دمشق، فإن الوحيدين الذين يحصلون على مساعدة مالية من الحكومة بحسب القانون السوري هم أصحاب الشلل الدماغي، وتبلغ شهرياً 40 ألف ليرة (3$) فقط لا غير.

أما بقية الإعاقات فيحصل أصحابها على حسومات من الدولة، مثل حسم 50 بالمئة على تذاكر الطيران ووسائل النقل العامة، ومجانية دخول للأماكن الأثرية، وإعفاء جميع أنواع معاملات من الطوابع.

وفيما يخص المبادرات التي تقدم مبالغ مالية أو مساعدات عينية، أكد غرّة لـ “عكازة” أنها تصدر عن الجمعيات الأهلية المنتشرة في المحافظات، ففي دمشق وحدها هناك أكثر من 50 جمعية خيرية، تعتمد في تمويلها على مشاريعها الإنتاجية وعلى تبرعات أهل الخير. في حين لا تستطيع المنظمات الدولية تقديم دعم مالي مباشر لذوي الإعاقة، بل تحتاج إلى وسيط محلي من الجمعيات والمؤسسات المرخصة.

الجمعيات باتت عاجزة

ونتيجة لظروف الحرب وارتفاع الأسعار الكبير والمتواصل لكافة أنواع المواد التي يمكن تقديمها لذوي الإعاقة، باتت الجمعيات الخيرية والأهلية التي تحاول سد الفراغ من عدم قدرة الحكومة على تقديم الدعم، تعاني هي الأخرى من شح الموارد.

جزءٌ كبير من هذه الجمعيات تعتمد في تمويلها على تبرعات الميسورين وأغلبهم من التجار، الذين يقع عليهم ما يقع على الجميع من أحوال البلاد وتغيراتها، وقد تلحق بهم خسائر تمنعهم عن العطاء، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تذبذب المساعدات واختلاف جودتها وكميتها.

بالحديث مع جمعية “جذور” والتي تعنى بأطفال متلازمة داون، أكدت مديرة الشؤون الإدارية رهيفا رجب، أن تمويلهم ينقسم إلى ذاتي عبر مجموعة من المشاريع العائدة للجمعية، وخارجي من المتبرعين وأهل الخير. مؤكدة أن الكلفة الشهرية لرعاية كل طفل في مركزهم تبلغ حوالي مليون ونصف ليرة (حوالي 107$) موزعة بين غذاء ولباس وأدوية وحفاضات، وهي مبالغ باهظة ليس من السهل تأمينها في ظل الظروف الحالية حتى مع وجود مشاريع ربحية داعمة.

التأمين مفقود أيضاً

قد يبدو التأمين الصحي حلاً مع تنامي مشكلة العوز المادي للعائلات التي ترعى أشخاصاً من ذوي الإعاقة، ولكن حتى التأمين الصحي لا يمكن أن يشملهم. إذ يؤكد خبير التأمين مضر أمين، أن أغلب برامج التأمين في سوريا تبدأ بعد مضي 14 يوماً على ولادة الطفل، بشرط توفير تقرير يثبت أن الطفل سليم جسدياً وعقلياً وخالي من الأمراض السارية والعضال.

ويضيف أن برامج التأمين الصحي المعنية بذوي الإعاقة عالمياً هي برامج إلزامية مدعومة من الحكومات بأدوات متكاملة وذكية، مثل الحصول على تخفيض ضريبي، أو أن تكون شرطاً لتصنيف شركات التأمين أو المراكز الطبية التي تقدم خدمات خاصة.

ويتابع أمين أن مثل هذه المشاريع تنتج من الوعي المجتمعي وإحساس الشركات بالانتماء وضرورة المساهمة غير الهادفة للربح. وأنه يجب على قطاع التأمين بالتعاون مع وزراتي المالية والصحة في سوريا تقديم حلول خلاقة أو مبادرات بهذا المجال، مثل إعفاء ضريبي معين لقاء تقديم الشركات بطاقات تأمين صحي لذوي الإعاقة، أو غيرها من البرامج والحلول التي تسعى لتحمل المسؤولية الاجتماعية تجاه هؤلاء الأشخاص.

“نحتاج بنية متكاملة”

يقول الخبير التنموي ماهر رزق، أن التعامل مع قضية الإعاقة يجب أن يتضمن حل شامل قائم على دراسات وأرقام واقعية، ليعالج المشكلة من جذورها ويحمي المعوقين من الاستجداء والاستغلال، باعتبار أن حقوقهم تقع في إطار منظومة حقوق الإنسان.

ويضيف رزق، أن معظم الدول نهجت في البداية النهج المؤسساتي للتدخل في قضية الإعاقة من خلال مراكز تعليمية وتأهيلية حكومية أو أهلية. لكن التجربة على مدار العقود الماضية، كرست حالة العزلة لهذه الفئات عن مجتمعاتها المحلية، لتجد هذه التجارب نفسها في الاتجاه المعاكس للغايات الأساسية وهي المساواة والإدماج والمشاركة العادلة، علاوة على عدم قدرة الدول على توفير التمويل الضخم لهذه المؤسسات.

لتبدأ بعد ذلك محاولات الدمج في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهنا تفاوتت النتائج بين دولة وأخرى تبعاً للإرادة الحكومية من جهة، والقدرة على التغيير في الذهنية المجتمعية من جهة أخرى.

وخلص رزق إلى أن بعض الدول والمنظمات الدولية في العقد الأخير بدأت بتقديم دعم نقدي مباشر للأشخاص ذوي الإعاقة بالتوازي مع تعزيز قدرة بيئات العمل والتعليم وغيرها على الدمج. وهو ما يفتقده النهج المؤسساتي الذي لا يزال قائماً في سوريا، لذا تبرز الحاجة اليوم لإنشاء بنية جديدة تتبنى مقاربات مختلفة لإدارة ملف الحماية الاجتماعية.

كتابة: فراس محمد

تم إنتاج هذه المادة بدعم من الصندوق الكندي لدعم المبادرات المحلية.