في اللحظات الأولى التي تلتقي فيها رهام الشابة الثلاثينية الكفيفة، قد يراودك سؤال عمن يختار لها ملابسها، لشدة تناسق مظهرها وأناقتها، وعند جوابها بأنها هي من تقوم بذلك، سيكون سؤالك التالي كيف استطاع شخصاً لا يملك بصره تنسيق قطع الملابس بهذا الشكل؟

تعلق رهام بأن هناك تطبيقات كثيرة تساعد المكفوف على معرفة الألوان، من خلال تمرير عدسة الكاميرا على مجموعة من قطع الثياب، ليكون لها القرار النهائي فيما ترتدي دون الحاجة لسؤال أحد أو الاعتماد على ذوق الآخرين، “فالأناقة مطلوبة حتى في عالم بلا ألوان”، كما تقول.

وتضيف: “لكن العمى الحقيقي هو عندما تنفذ بطارية هاتفي المحمول، فكيف لي معرفة الوقت، أو حالة الطقس والطرق العامة، أو استخدام تطبيقات قياس المسافة بين الأشياء، والأهم تلك التي تترجم النصوص إلى أصوات لتساعدني على إتمام دراستي بكلية الحقوق ومطالعة آخر الأخبار”.

بدأت معاناة رهام مع وضع الكهرباء المتردي وزيادة ساعات التقنين بعد خروج الكثير من محطات الطاقة عن الخدمة إثر المعارك الدائرة ونقص الوقود. ورغم أن هذا الواقع يحكم الجميع، إلا أن الهاتف أصبح عصا المكفوف الحديثة حسب رأيها.

تضيف: “حتى لو استغنيت عن الهاتف وقررت الحصول على عصا استشعارية، فإن ثمنها يتجاوز ثمن هاتف جديد، ناهيك عن أنها تؤدي غرضاً واحداً فقط وهو قياس المسافات، مع الحاجة إلى شحن بطاريتها أيضاً”.

قرارات حكومية تُعقّد استخدام التكنولوجيا

أصدرت وزارة الاتصالات السورية مطلع عام 2019 قراراً بتعديل بدلات التصريح الجمركي على كافة الأجهزة المحمولة التي تدخل البلاد، لتضيف بذلك رسوماً جديدة وفق الشريحة التي ينتمي إليها كل جهاز. ومنذ ذلك الحين تم تعديل تلك الرسوم عدة مرات لتتسبب في ارتفاع أسعار الهواتف المحمولة إلى أرقام خيالية قياساً إلى دخل الفرد.

وكان الأشخاص الصم هم الأكثر تأثراً بهذا القرار، فمكالمات الفيديو هي الوسيلة الوحيدة التي يتواصلون بين بعضهم من خلالها. تقول رشا والتي تنتمي لعائلة من الأشخاص الصم، أن “القرارات الحكومية لم تأخذ في اعتباراتها احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، رغم أنهم يحملون بطاقة من وزارة الشؤون الاجتماعية لإعفائهم من رسوم عديدة، إلا أن رسوم التصريحات الجمركية على الهاتف ليست من ضمنها.”

وتعلق المحامية والناشطة الحقوقية ملك، بأن المطالبة بإعفاء المعوقين من هذه الرسوم “يحتاج إلى عمل نقابي وحملة مجتمع مدني للظفر به، على غرار المرسوم التشريعي رقم 36 لعام 2003 القاضي بإعفاء سيارات المعوقين من الرسوم الجمركية.”

رغم أن الاتفاقية الأممية للأشخاص ذوي الإعاقة والتي انضمت سوريا إليها عام 2007، تدعو الدول الأطراف إلى “توفير تكنولوجيا المعلومات والإتصال، وكذلك الوسائل والأجهزة المساعدة على التنقل (…) بأسعار معقولة”.

حلول تقنية فرضها الواقع

بطرف اصطناعي وعكازات كان علي اكريم، مدّرس اللغة الإنكليزية، يتنقّل بين منزله وشركته الصغيرة لتعليم اللغات، إذ لم تكن فكرة التعليم عن بعد ممكنة بالنسبة له، حتى أجبرته جائحة كورونا على ذلك.

“كان التنقل مرهق جداً بالنسبة لشخص مبتور الأطراف السفلية، فالمواصلات العامة كانت تشكل لي كابوساً حقيقاً. إلا أن التحول إلى التعليم والعمل الإلكتروني كان فرصة لا تعوض، فهو لا يحتاج سوى إلى جهاز حاسوب وشبكة انترنت جيدة”، يضيف اكريم.

ورغم أن طلابه اليوم باتوا منتشرين في كل أرجاء العالم، إلا أنه واجه مشكلة التعامل مع الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي، فاضطر إلى توفير بعض المال لتركيب نظام طاقة شمسية في منزله يمكنه من مواصلة دروسه.

وكانت ‘الإسكوا’ قد أطلقت منذ سنوات المنصّة العربية للإدماج الرقمي، والتي تتضمن معلومات حول الإعاقة وإمكانية الوصول الرقمي، بما في ذلك الأبحاث والقوانين والسياسات من المنطقة العربية، بهدف مساعدة صانعي السياسات على تطوير خدماتهم.

الاختراعات مفيدة .. لكن إذا توفرت!

منذ نحو ثلاث سنوات، تعرض سالم (اسم مستعار) وهو في عامه الأربعين لإصابة في نخاعه الشوكي، ما نتج عنها إعاقة طارئة، فرضت عليه البحث عن معينات حركية ووسائل تضمن له متابعة عمله على كرسي متحرك، ومن ضمنها استيراد سيارة سياحية ذات مواصفات خاصة تناسب نوع ودرجة إعاقته، مستفيداً من المرسوم التشريعي الذي يسمح له بذلك.

لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي توقعها سالم، يضيف: “اكتشفت أن المرسوم متوقف العمل به منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبحاجة لاستثناء من رئاسة الوزراء للمضي قدماً في ذلك، وهو خيار سيضطرني للتعامل مع سماسرة كثر على جميع المستويات”.

عندها استغنى سالم عن فكرة شراء سيارة بمواصفات خاصة، واتجه لتعديل سيارته الحالية لتلاءم وضعه الجديد. وبعد البحث على الإنترنت وسؤال بعض الأصدقاء في ألمانيا وأميركا، تبين له أن هناك جهاز بسيط يمكن تركيبه في السيارة، يساعد الشخص من ذوي الإعاقة الحركية على القيادة بشكل يدوي، دون الحاجة لإحداث تغيرات كبيرة في السيارة.

تشجع الرجل للفكرة بسبب عدم ارتفاع ثمن الجهاز، ولكن مشكلة شحنه إلى البلاد المعاقبة اقتصادياً كانت العقبة الأساسية التي واجهته. يقول: “وإذا وصل الجهاز بطريقة أو بأخرى فإن رسومه الجمركية ستكون مرتفعة جداً، وحتى أجور المهربين كانت خيالية، وهو ما أوصلني في النهاية إلى التخلي عن فكرة قيادة السيارة أصلاً”.

يضيف الدكتور فايز، مدير أحد مراكز بيع الأجهزة الخاصة بالمعوقين في ريف دمشق: “تتوفر اليوم العديد من الاختراع التقنية المساعدة مثل الكراسي المتحركة القادرة على صعود الأدراج، أو الأجهزة الذي يساعد المصابون بالشلل على التقاط الأشياء واستعمالها، إلا أن أسعارها لا تزال باهظة الثمن بالنسبة لفئة تعتبر الأقل دخلاً، وهو ما يجعلها حلماً للكثيرين”.

يواجه العالم اليوم تدفقاً مستمراً من الاختراعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، يجعلنا نرغب في الحصول عليها بكافة الطرق، إلا أن فئة الأشخاص ذوي الإعاقة تظل الأكثر احتياجاً لهذه التقنيات الحديثة لتساعدهم على مواجهة الصعوبات اليومية التي يعيشونها، بطريقة تحترم كرامتهم المتأصلة وحقهم في الحياة على قدم المساواة مع الأخرين.

كتابة: ليلى الحلبي | بالتعاون مع راديو روزنة