هل فكرت يوماً بأن حصول شخصِ من ذوي الإعاقةِ الحركيةِ ويعاني من صعوبةٍ في المشي، على مقعدٍ في سرافيسِ النقلِ العامةِ، يعتبرُ كابوساً مضنياً يواجهه كلما أراد التنقل!

كنتُ وقتَها متّجهاً من الريفِ إلى المدينةِ لأمرٍ ضروريّ، عندما رآني صاحبُ السرفيس الذي يعرفني معرفةُ شخصيةً، ويعرف من حركتي المتثاقلةِ أنّي لن أستطيعَ الجريَ للّحاقِ بمعقدٍ، فنادى لي “تعا شايلك مقعد قدام .. تعال جنبي”. لولا ذلك كان سيتوجّب عليّ الانتظار ليمرَّ سيرفيس أو اثنان أو ثلاثة، حتى تخفَّ زحمةَ المتوجهين إلى المدينةِ صباحاً، وأحصلُ على فرصة للركوب.

كم شعرتُ وقتَها بالراحةِ والأمان، لدرجةِ أنني دفعت له زيادة على الأجرة وقلتُ له ممازحاً: هذه ضريبةُ رفاهية على جلوسي في مقعدٍ مريح!

انطلق السيرفيس وكان عليَّ أن أبدو لطيفاً، وأسلَي صاحبَه حتى نصلَ إلى المدينة، تخللَ الحديث بعضَ الضحكِ والمزاح، إلى أن توقفَ عند بائعِ القهوة على الطريق وسألني: كيف قهوتك؟ قلتُ له على الفور: شكراً لا أريد، لقد شربت في البيت، وكثرةُ القهوة تضرني.

هو لم يصّر، وأنا ارتحتُ لعدمِ إصرارهِ، ولكن كمٌّ من الانكسارِ حصلَ بيني وبين نفسي، فقد اشتهيتُ القهوةَ وقتها كثيراً، إنّما بسبب إعاقتي كان يصعبُ عليّ الشرب في كأسٍ بلاستيكية.

تذكرتُ حينها موقفين مشابهين حصلا معي سابقاً، عندما حاولتُ إمساكَ تلك الكؤوس الهشة، فكانت النتيجةُ أن انسكبَت القهوة في إحدى المرات على مكتبِ صديقي، الذي حاولَ تنظيفَ المكان وجعلَ الأمر يبدو طبيعياً، ولكني شعرتُ بالكثيرِ من الإحراج أمامه، وفي المرة الثانية انسكبت على ثيابي الجديدة، رفضتُ بعدها شرب القهوة في مواقف مشابهةٍ، كعزاءٍ أو مكانٍ عامٍ، فأنا أحتاج إلى كأسٍ أو كوبٍ لأمسكه بيديّ الاثنتين، مع شرط أن يكونَ غير ممتلئٍ تماماً.

أكملنا الطريق بالضحكِ والمزاحِ، متجاهلاً تلك الذكريات المزعجة، لأعيش لحظات الامتنان بحصولي على هذا المقعد المريح، وبسرعةٍ لم أتوقعها.

بدأ السائقُ الإشادةَ بالإنجازاتِ التي حققتها في حياتي، كالتخرجِ من كلية الحقوق، وحصولي على وظيفة، واكتسابي احترامَ المجتمع، وأنا أستمعُ إليه باهتمامٍ، محاولاً اكتساب المزيدِ من الثقةِ بالنفس، فالتجاربُ المريرة التي مررتُ بها، علمتني ألّا أقفَ عندَ الخيباتِ الصغيرةِ، فقد تجاوزتُ الكثيرَ قبلها، وأكبرَ بكثيرٍ من انسكاب فنجان قهوة، وأعلم أنّ رحلةَ تجاوزِ الخيباتِ لم ولن تنتهي ما دامَ في الحياةِ بقية.

ربما حققتُ في حياتي الكثيرَ من الإنجازات، التي أراها أمراً طبيعيّاً وعاديّاً جداً، بينما يراها غيري من أفرادِ المجتمع أمراً أشبه بالمعجزةِ بسببِ إعاقتي، ولكنّي ما زلتُ أعيشُ ذلك الصراع النفسيّ الداخليّ الدائم، بين ما حققتهُ في الواقع، وبين ما هو غير ممكنٍ، أو قابلٍ للتحول إلى واقع، فعلى الرغمِ من كل تلك النجاحات سيبقى حلمٌ بسيطٌ، كشربِ فنجانِ قهوةٍ بيدٍ واحدةٍ وهو ممتلئٌ، شيئاً أقرب إلى المستحيل، أو ضرباً من ضروبِ الخيال، ربما لن أصل إليه أبداً، كما الكثير من الأحلام المماثلة!

كتابة: مياس علي سلمان