لطالما عودت نفسي على التنقل بين القرية والمدينة والمحافظات الأخرى بحكم ضرورة الالتزام بمهام متنوعة ومسؤوليات كثيرة، كنت أسافر بمفردي معتمداً على علامات أرسمها في مخيلتي مع كل انتقال أو زيارة لمكان، أحفظ المنعطفات والمطبات وإشارات المرور والحفر وتعرجات الطريق، للتعرف على المكان الذي تمر به واسطة النقل التي ارتادها.

تمرنت كثيراً على ذلك منذ أن فقدت بصري كاملاً، وبات الجميع معتاداً على استقلاليتي هذه ومطمئناً على تحركاتي بمفردي، لما كنت أبديه من مرونة في القيام بالمسؤوليات التي كُلفت بها، والإنجازات التي عززت لدى الكثيرين قدرتي على العطاء.

لكن في غمرة ذلك النشاط يخترق إصرارك على الاستقلال مواقف لها أثرها المؤلم رغم فائق العزم والإرادة، فقد جرت العادة أن أستقل حافلات طرطوس-جبلة عند عودتي إلى المنزل، بغرض النزول على الأوتوستراد الدولي عند مفرق قريتنا.

وبالطبع ليس سهلاً على كفيف مثلي النزول في نقطة محددة من ذلك الطريق الدولي الممتد بانسياب خلا بعض التعرجات والعلامات التي لا تعني لأحدٍ غيرنا شيئاً، بينما كانت بالنسبة لي عكازة أتكئ عليها، فقد جهدت على تفهم تفاصيل ذلك الطريق كي استغني عن الارتباط بركاب الحافلة أو السائق عند كل نزول.

في احدى المرات وبعد أن أوصلتني زميلتي إلى محطة الحافلات، أصرت على جلوسي في المقعد الأمامي، لكن أحد الركاب تمسك بالمقعد، وعندما أخبرته بأنني سأنزل على مفرق قرية العنازة، قال بصوت حاد: “وأنا سأنزل قبلك على الطريق”.

لم يخطر ببالي يومها أن الراكب قال عبارته جذافاً، بل كنت متيقناً من قوله وبنيت عليه واتخذته عكازتي على ذلك الطريق تريحني من عناء التمحيص في طبيعة المكان. مشينا بأمان الله وأنا على يقين بأن أمر نزولي ميسراً هذه المرة، عبرت الحافلة كل العلامات التي استدل بها عادة على النزول، فرغم يقيني بها خالفت ذلك معتمداً على قول الراكب ومنتظراً نزوله قبلي.

شعرت بالخطر لكن صدقي منعني من تكذيب الرجل، حتى أدركت أن الحافلة تجاوزت مفرق القرية بكثير، سألت السائق فأخبروني أننا قطعناه منذ فترة، مما اضطرني للنزول في مكان غير معروف بالنسبة لي وفيه من المشقة والعناء والخطر الكثير. فهي كذبة بيضاء أظلمت بصيرتي ببياضها، وتاهت معها رهافة احساسي، فالراكب لمجرد التسلية أو الأنانية كلفني الكثير بدلاً من أن يكون خير مؤنس ورفيق!

فليعلم الجميع أن دقة المعلومة هي نور لنا تهدينا الى بر الأمان، فهي أشياء تصغر في حسابات الآخرين لكننا نتعكز عليها، ونحن لسنا بحاجة إلا المحبة والصدق في التواصل معنا، والإيمان بأن وجودنا لوحة إبداع تحتاج لأنامل محبتكم وألوان إنسانيتكم الراقية.

كتابة: أ. ممدوح ديبو