كتبت إيملي كريسنجلي، وهي أم لطفل لديه متلازمة داون، في مقال شهير بعنوان ‘مرحباً بكم في هولندا’، عن اللحظات الأولى لولادة طفلها، الأمر بنظرها يشبه رغبتك بالسفر إلى إيطاليا، إلا أن الطائرة ستحط في هولندا. مكان جميل ومختلف، ولكنه ليس المكان الذي توقعت وحلمت بالهبوط فيه، وكل ما عليك الآن هو تغيير بعض الخطط للتأقلم مع الواقع الجديد.

في عيد الأم نستعرض تجارب اثنتين من الشابات اللواتي تخيلن وخططن لحدث الولادة وتربية الأطفال، في حين كانت ولادتهن الأولى والوحيدة هي لطفل من ذوي الإعاقة، لنلقي نظرة أقرب على حياتهن وطبيعة العلاقة مع أطفالهن.

القصة الأولى: ميلاني علم (29 عاماً، أم لطفل يعاني من متلازمة نادرة اسمها Coffin Siris)

“كوفين سيريس هي متلازمة نادرة جداً، يعاني منها فقط 500 شخص حول العالم”، تقول ميلاني المقيمة في دولة الإمارات في حديثها لمنصة عكازة: “لم يكن لدي أي فكرة عن هؤلاء قبل ولادة طفلي، وبالطبع لم أفكر في احتمالية أن أنجب طفلاً لديه متلازمة من هذا النوع”.

تبدي ميلاني اليوم استقراراً أكبر على مستوى مشاعرها تجاه الوضع القائم لطفلها ذو السنوات الأربع، لكن هذا الاستقرار بحسب كلامها، لم يكن سهلاً. تقول الأم: “عندما كان طفلي في الأشهر الأولى من عمره، ظهرت عليه بعض المشاكل الصحية، ولكن الأطباء أكدوا أنها أشياء تحدث وستتحسن حالته بعد عامين، لذا عشت تجربة اعتيادية لأي أم تختبر الولادة لأول مرة، وهي بالطبع حالة رائعة”. وتضيف: “لكن المرحلة التي تلت تشخيص طفلي هي الأصعب على الإطلاق، لم أمتلك أي فكرة عن كيفيّة التعامل مع هذه الحالة الغريبة والجديدة كلياً، فضلاً عن وقع الخبر ذاته”.

خلال تلك المرحلة، بدأت ميلاني البحث عن مصادر المعلومات المرتبطة بتلك المتلازمة، فأرادت التواصل مع عوائل يعيشون نفس الحالة، ولكن لسوء حظها لم تكن تجربتها الأولى ناجحة، بل تسببت لها تلك العائلة بالإحباط الكبير، إلى أن تواصلت مع عائلة أخرى ساعدتها كثيراً في التعرف على حالة طفلها وكيفية التعامل معه.

تضيف الشابة: “بهذا أدركتُ أن هنالك نوعين من العوائل؛ أولئك الذين يقولون إن الأمر قضاء وقدر ولا يحاولون الاهتمام بطفلهم أكثر، وأولئك الذين يبذلون قصارى جهدهم لتطويره وتحسين حالته ويشكلون مصدر تحفيز لغيرهم، وهذا ما أريد أن أكونه بالنسبة لعوائل قد تعيش ذات التجربة”.

ليس لدى ميلاني معيل لها ولابنها، لذا فهي لا تستطيع قضاء أوقات طويلة معه بحكم التزامها بعملها، لكنها تشير إلى أن طفلها ليس مريضاً أو بحاجة رعاية استثنائية تستوجب تفريغ الوقت تماماً له. إنما هو طفل لديه متلازمة سترافقه طيلة حياته من دون أية مضاعفات، ولن يشكل هذا حاجزاً يمنعها من ممارسة حياتها بشكل طبيعي، تقول: “لا أجد أن حالة ابني هي العائق أمام القيام بأمور أحبها أو التفكير بمشاريع مستقبلية، بل هو أمر تفرضه مسؤولية أن يكون لديك طفل، سواء كان لديه احتياجات إضافية أم لا”.

لا يُظهر طفل ميلاني ردود فعل كثيرة، فهو لا يتكلم ولا يمكنه المشي، كما أن الأنشطة التي يقوم بها خلال النهار قليلة وغالباً ما يقضي معظم وقته في متابعة برامج الأطفال، وهذا بالضبط ما كان يتسبب لها بالحزن، تقول: “عادة ما تقوم العوائل بأنشطة مشتركة مع أطفالها لا سيما خلال الأعياد، والآن مع اقتراب عيد الأم، يؤثر بي أن طفلي غير قادر على مشاركتي أي نوع من الأنشطة، كان يتسبب لي ذلك من قبل بحزن كبير، أما الآن فهذا الحزن لحظي جداً، تبدده ابتسامة واحدة منه”.

دربت الأم طفلها على بعض الأشياء، وكان هذا بمثابة تحد بالنسبة لها، تقول ميلاني: “على مدار أشهر كنت أدربه على عناقي، وهو ما لم يصدقه المحيط حين حصل، لكنني نجحت، بل وقد تحسن أداؤه في العناق أو ما أسميه ‘عبوطة’ مع مرور الوقت، هذه واحدة من أسعد اللحظات عندي”.

القصة الثانية: هيا باطوس (30 عاماً، أم لطفل يعاني من اضطراب طيف التوحد)

“التوحد هو تقبل المجهول”، بحسب تعبير هيا المقيمة في ألمانيا، والتي تضيف موضحة فكرتها: “من الممكن أن يكون طفل التوحد قادراً على النطق والكلام في مرحلة ما، ربما بعد عام من التشخيص أو بعد عشرة أعوام، وقد لا يحدث هذا أبداً. كذلك الأمر بالنسبة لكافة قدراته وسلوكياته الأخرى الضامرة حالياً، من الممكن أن تظهر في المستقبل أو لا تظهر أبداً. وهذا وفقاً لتجربتي هو أصعب ما يمكن أن تختبره عائلة لطفل توحد، أي انتظار المجهول”.

لم تكن هيا قبل خمسة أعوام، وهو عمر طفلها، تدرك أي شيء عن هذا النوع من الاضطرابات. تقول: “هنالك من يقول إن الأم المدخنة هي السبب، وآخرون يعزون التوحد لإهمال الطفل من قبل العائلة في سنواته الأولى، لكن العلم لم يحدد أسباباً واضحة حتى الآن، ولهذا لا يجب إلقاء اللوم على الأهالي”.

وتعاني أمهات أطفال التوحد من ضغوطات كبيرة يمارسها المحيط من باب النصح وتقديم المشورة على الرغم من أنها بمعظمها غير صحيحة ولا تستند إلى أساس علمي أو تجريبي، مثل من يعتبر أن التوحد هو مرض يمكن أن يشفى الطفل منه إذا بذلت الأمهات مجهوداً أكبر!

حوّلت هيا صفحتها على إنستغرام إلى منصة للتوعية، وهي تنشر العديد من الصور ومقاطع الفيديو المصورة لطفلها مرفقة بمعلومات متخصصة بناء على الملاحظة الشخصية والانتباه اليومي لسلوكياته، ولكنها تؤكد أن لكل حالة وضعها الخاص تبعاً لمستويات التوحد وشدته.

لكن هدف هيا هو الإشارة إلى ما هو أهم وأعمق، وهو أن تقول للأمهات اللواتي يختبرن التجربة حديثاً أنهن لسن وحيدات، وأنهن يتشاركن ذات المشاعر والتحديات، ويجدن دوماً أساليبهن الخاصة في فهم ما يريد الطفل قوله لهن تعبيراً عن الامتنان أو الحب. تضيف هيا: “طفلي غير قادر على التعبير بشكل واضح عن مشاعره نحوي، ولكن لدينا طرقنا الخاصة، فهو مثلاً لا يستطيع الجلوس في غرفة لست موجودة فيها، يحضر ألعابه إلى حيث أجلس ويبقى بقربي، هذه وسيلته للتعبير”.

فالطفل من ذوي الإعاقة يبني صلة خاصة مع أمه سواء استطاع التعبير عنها بالكلمات أو عجز عن ذلك، ومن الجميل هنا أن نستذكر فيلم ‘قدمي اليسرى’ الذي يروي قصة حياة الكاتب الإيرلندي ‘كريستي براون’ المصاب بالشلل الكلي منذ ولادته. حيث كانت أمه هي الداعم الأول له. كان براون قادراً على تحريك جزء واحد من جسده وهو قدمه اليسرى، الأمر الذي ساعده على الرسم، فكان أول ما رسمه باستخدام قدمه هو كلمة: Mother / أمي.

كتابة: هند الشيخ علي